فصل: تفسير الآيات (16- 17):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.تفسير الآيات (16- 17):

{وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (16) اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17)}
{وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} قال سعيد بن جبير عن ابن عباس: يعني كتابنا، والقط الصحيفة التي أحصت كل شيء.
قال الكلبي: لما نزلت في الحاقة: {فأما من أوتي كتابه بيمينه} [الحاقة- 19]، {وأما من أوتي كتابه بشماله} [الحاقة- 25] قالوا استهزاء: عجل لنا كتابنا في الدنيا قبل يوم الحساب. وقال سعيد بن جبير: يعنون حظنا ونصيبنا من الجنة التي تقول.
وقال الحسن، وقتادة، ومجاهد، والسدي: يعني عقوبتنا ونصيبنا من العذاب.
وقال عطاء: قاله النضر بن الحارث، وهو قوله: {اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء} [الأنفال: 32].
وعن مجاهد قال: {قطنا} حسابنا، ويقال لكتاب الحساب قط.
وقال أبو عبيدة والكسائي: القط: الكتاب بالجوائز.
قال الله تعالى: {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} أي على ما يقوله الكفار من تكذيبك {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأيْدِ} قال ابن عباس: أي القوة في العبادة.
أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أبو منصور السمعاني، أخبرنا أبو جعفر الرياني، حدثنا حميد بن زنجويه، حدثنا أبو نعيم، حدثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عمرو بن أوس، عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أحب الصيام إلى الله صيام داود، وأحب الصلاة إلى الله صلاة داود، كان يصوم يومًا ويفطر يومًا، وكان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه، وينام سدسه».
وقيل: ذو القوة في الملك.
{إِنَّهُ أَوَّابٌ} رجاع إلى الله عز وجل بالتوبة عن كل ما يكره، قال ابن عباس: مطيع. قال سعيد بن جبير: مسبح بلغة الحبش.

.تفسير الآيات (18- 20):

{إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإشْرَاقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20)}
{إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ} كما قال: {وسخرنا مع داود الجبال} [الأنبياء- 79] {يُسَبِّحْنَ} بتسبيحه، {بِالْعَشِيِّ وَالإشْرَاقِ} قال الكلبي: غدوة وعشية. والإشراق: هو أن تشرق الشمس ويتناهى ضوؤها وفسره ابن عباس: بصلاة الضحى.
أخبرنا أبو سعيد الشريحي، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي، أخبرني ابن فنجويه، حدثنا ابن أبي شيبة، حدثنا أبو أمية محمد بن إبراهيم، حدثنا الحجاج بن نصير، أخبرنا أبو بكر الهذلي، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس في قوله: {بالعشي والإشراق} قال: كنت أمر بهذه الآية لا أدري ما هي حتى حدثتني أم هانئ بنت أبي طالب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها فدعا بوضوء فتوضأ، ثم صلى الضحى، فقال: «يا أم هانئ هذه صلاة الإشراق».
قوله عز وجل: {وَالطَّيْرَ} أي: وسخرنا له الطير، {مَحْشُورَةً} مجموعة إليه تسبح معه، {كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ} مطيع رجاع إلى طاعته بالتسبيح، وقيل: أواب معه أي مسبح.
{وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ} أي: قويناه بالحرس والجنود، قال ابن عباس: كان أشد ملوك الأرض سلطانًا، كان يحرس محرابه كل ليلة ستة وثلاثون ألف رجل.
أخبرنا أبو سعيد الشريحي، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي، أخبرنا عبد الله بن حامد، أخبرنا محمد بن خالد بن الحسن، حدثنا داود بن سليمان، حدثنا محمد بن حميد، حدثنا محمد بن الفضل، حدثنا داود بن أبي الفرات، عن علي بن أحمد، عن عكرمة، عن ابن عباس أن رجلا من بني إسرائيل استعدى على رجل من عظمائهم عند داود- عليه السلام- أن هذا غصبني بقرًا، فسأله داود فجحد، فقال للآخر: البينة؟ فلم يكن له بينة، فقال لهما داود: قوما حتى أنظر في أمركما، فأوحى الله إلى داود في منامه أن يقتل الذي استعدى عليه، فقال: هذه رؤيا ولست أعجل حتى أتثبت، فأوحى إليه مرة أخرى فلم يفعل، فأوحى الله إليه الثالثة أن يقتله أو تأتيه العقوبة، فأرسل داود إليه فقال: إن الله أوحى إلي أن أقتلك، فقال: تقتلني بغير بينة؟ قال داود: نعم والله لأنفذن أمر الله فيك، فلما عرف الرجل أنه قاتله، قال: لا تعجل حتى أخبرك، إني والله ما أخذت بهذا الذنب ولكني كنت اغتلت والد هذا فقتلته، فلذلك أخذت، فأمر به داود فقتل، فاشتدت هيبة بني إسرائيل عند ذلك لداود، واشتد به ملكه فذلك قوله عز وجل: {وشددنا ملكه}.
{وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ} يعني: النبوة والإصابة في الأمور، {وَفَصْلَ الْخِطَابِ} قال ابن عباس: بيان الكلام.
وقال ابن مسعود، والحسن، والكلبي، ومقاتل: علم الحكم والتبصر في القضاء.
وقال علي بن أبي طالب: هو أن البينة على المدعي واليمين على من أنكر، لأن كلام الخصوم ينقطع وينفصل به.
ويروى ذلك عن أبيّ بن كعب قال: {فصل الخطاب}: الشهود والأيمان. وهو قول مجاهد وعطاء بن أبي رباح.
وروي عن الشعبي: أن فصل الخطاب: هو قول الإنسان بعد حمد الله والثناء عليه: أما بعد إذا أراد الشروع في كلام آخر، وأول من قاله داود عليه السلام.

.تفسير الآية رقم (21):

{وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21)}
قوله عز وجل: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} هذه الآية من قصة امتحان داود عليه السلام، واختلف العلماء بأخبار الأنبياء عليهم السلام في سببه: فقال قوم: سبب ذلك أنه عليه السلام تمنى يومًا من الأيام منزلة إبراهيم وإسحاق ويعقوب، وسأل ربه أن يمتحنه كما امتحنهم، ويعطيه من الفضل مثل ما أعطاهم.
فروى السدي، والكلبي، ومقاتل: عن أشياخهم قد دخل حديث بعضهم في بعض، قالوا: كان داود قد قسم الدهر ثلاثة أيام يومًا يقضي فيه بين الناس، ويومًا يخلو فيه لعبادة ربه، ويوما لنسائه وأشغاله، وكان يجد فيما يقرأ من الكتب فضل إبراهيم وإسحاق ويعقوب، فقال: يا رب أرى الخير كله وقد ذهب به آبائي الذين كانوا قبلي، فأوحى الله إليه: أنهم ابتلوا ببلايا لم تبتل بها فصبروا عليها، ابتلي إبراهيم بنمرود وبذبح ابنه، وابتلي إسحاق بالذبح وبذهاب بصره، وابتلي يعقوب بالحزن على يوسف، فقال: رب لو ابتليتني بمثل ما ابتليتهم صبرت أيضًا. فأوحى الله إليه إنك مبتلى في شهر كذا وفي يوم كذا فاحترس، فلما كان ذلك اليوم الذي وعده الله دخل داود محرابه وأغلق بابه، وجعل يصلي ويقرأ الزبور، فبينا هو كذلك إذ جاءه الشيطان قد تمثل في صورة حمامة من ذهب فيها من كل لون حسن- وقيل: كان جناحاها من الدر والزبرجد- فوقعت بين رجليه فأعجبه حسنها، فمد يده ليأخذها ويريها بني إسرائيل فينظروا إلى قدرة الله تعالى، فلما قصد أخذها طارت غير بعيد من غير أن تؤيسه من نفسها، فامتد إليها ليأخذها، فتنحت، فتبعها فطارت حتى وقعت في كوة، فذهب ليأخذها، فطارت من الكوة، فنظر داود أين تقع فيبعث من يصيدها، فأبصر امرأة في بستان على شط بركة لها تغتسل، هذا قول الكلبي. وقال السدي: رآها تغتسل على سطح لها فرأى امرأة من أجمل النساء خلقًا، فعجب داود من حسنها وحانت منها التفاتة فأبصرت ظله فنقضت شعرها فغطى بدنها، فزاده ذلك إعجابًا بها فسأل عنها، فقيل هي تيشايع بنت شايع امرأة أوريا بن حنانا، وزوجها في غزاة بالبلقاء مع أيوب بن صوريا ابن أخت داود.
وذكر بعضهم أنه أحب أن يقتل أوريا ويتزوج امرأته، فكان ذنبه هذا القدر.
وذكر بعضهم أنه كتب داود إلى ابن أخته أيوب أن أبعث أوريا إلى موضع كذا، وقدمه قبل التابوت، وكان من قدم على التابوت لا يحل له أن يرجع وراءه حتى يفتح الله على يديه أو يستشهد، فبعثه وقدمه ففتح له، فكتب إلى داود بذلك فكتب إليه أيضًا أن يبعثه إلى عدو كذا وكذا، فبعثه ففتح له، فكتب إلى داود بذلك فكتب له أيضًا أن يبعثه إلى عدو كذا وكذا أشد منه بأسًا، فبعثه فقتل في المرة الثالثة، فلما انقضت عدة المرأة تزوجها داود، فهي أم سليمان عليهما السلام.
وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: كان ذلك ذنب داود أنه التمس من الرجل أن ينزل له عن امرأته.
قال أهل التفسير: كان ذلك مباحًا لهم غير أن الله تعالى لم يرض له ذلك لأنه كان ذا رغبة في الدنيا، وازديادًا للنساء، وقد أغناه الله عنها بما أعطاه من غيرها.
وروي عن الحسن في سبب امتحان داود عليه السلام: أنه كان قد جزأ الدهر أجزاء، يومًا لنسائه، ويومًا للعبادة، ويومًا للقضاء بين بني إسرائيل، ويومًا لبني إسرائيل، يذاكرهم ويذاكرونه ويبكيهم ويبكونه، فلما كان يوم بني إسرائيل ذكروه فقالوا: هل يأتي على الإنسان يوم لا يصيب فيه ذنبًا، فأضمر داود في نفسه أنه سيطيق ذلك.
وقيل: إنهم ذكروا فتنة النساء فأضمر داود في نفسه أنه إن ابتلي اعتصم، فلما كان يوم عبادته أغلق أبوابه وأمر أن لا يدخل عليه أحد، وأكب على التوراة فبينما هو يقرأ إذ دخلت عليه حمامة من ذهب كما ذكرنا، قال: وكان قد بعث زوجها على بعض جيوشه، فكتب إليه أن يسير إلى مكان كذا وكذا إذا سار إليه قتل، ففعل فأصيب فتزوج أمرأته.
قالوا: فلما دخل داود بامرأة أوريا لم يلبث إلا يسيرًا حتى بعث الله إليه ملكين في صورة رجلين في يوم عبادته، فطلبا أن يدخلا عليه، فمنعهما الحرس فتسورا المحراب عليه، فما شعر وهو يصلي إلا وهما بين يديه جالسين، يقال: كانا جبريل وميكائيل، فذلك قوله عز وجل: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ} خبر الخصم، {إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} صعدوا وعلوا، يقال: تسورت الحائط والسور إذا علوته، وإنما جمع الفعل وهما اثنان لأن الخصم اسم يصلح للواحد والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث، ومعنى الجمع في الاثنين موجود، لأن معنى الجمع ضم شيء إلى شيء هذا كما قال الله تعالى: {فقد صغت قلوبكما} [التحريم- 4].

.تفسير الآيات (22- 23):

{إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22) إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23)}
{إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُم} خاف منهما حين هجما عليه في محرابه بغير إذنه، فقال: ما أدخلكما عليّ، {قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ} أي نحن خصمان {بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} جئناك لتقضي بيننا، فإن قيل: كيف قالا {بغى بعضنا على بعض} وهما ملكان لا يبغيان؟ قيل: معناه: أرأيت خصمين بغى أحدهما على الآخر، وهذا من معاريض الكلام لا على تحقيق البغي من أحدهما.
{فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ} أي لا تجر، يقال: شط الرجل شططًا وأشط إشطاطًا إذا جار في حكمه، ومعناه مجاوزة الحد، وأصل الكلمة من شطت الدار وأشطت، إذا بعدت {وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ} أرشدنا إلى طريق الصواب والعدل، فقال داود لهما: تكلما.
فقال أحدهما: {إِنَّ هَذَا أَخِي} أي: على ديني وطريقتي، {لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً} يعني امرأة {وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ} أي امرأة واحدة، والعرب تكني بالنعجة عن المرأة، قال الحسين بن الفضل: هذا تعريض للتنبيه والتفهيم، لأنه لم يكن هناك نعاج ولا بغي فهو كقولهم: ضرب زيد عمرًا، أو اشترى بكر دارًا، ولا ضرب هنالك ولا شراء.
{فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا} قال ابن عباس: اعطنيها. قال مجاهد: انزل لي عنها. وحقيقته: ضمها إليّ فاجعلني كافلها، وهو الذي يعولها وينفق عليها، والمعنى: طلقها لأتزوجها،.
{وَعَزَّنِي} وغلبني {فِي الْخِطَابِ} أي: في القول. وقيل: قهرني لقوة ملكه. قال الضحاك: يقول إن تكلم كان أفصح مني، وإن حارب كان أبطش مني.
وحقيقة المعنى: أن الغلبة كانت له لضعفي في يده، وإن كان الحق معي وهذا كله تمثيل لأمر داود مع أوريا زوج المرأة التي تزوجها داود حيث كان لداود تسع وتسعون امرأة ولأوريا امرأة واحدة فضمها إلى نسائه.

.تفسير الآية رقم (24):

{قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24)}
{قَالَ} داود {لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ} أي: بسؤاله نعجتك ليضمها إلى نعاجه.
فإن قيل: كيف قال لقد ظلمك ولم يكن سمع قول صاحبه؟
قيل: معناه إن كان الأمر كما تقول فقد ظلمك، وقيل: قال ذلك بعد اعتراف صاحبه بما يقول.
{وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ} الشركاء، {لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} يظلم بعضهم بعضًا، {إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} فإنهم لا يظلمون أحدًا. {وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} أي: قليل هم، و{ما} صلة يعني: الصالحين الذين لا يظلمون قليل.
قالوا: فلما قضى بينهما داود نظر أحدهما إلى صاحبه فضحك وصعد إلى السماء، فعلم داود أن الله تعالى ابتلاه، وذلك قوله: {وَظَنَّ دَاوُدُ} أيقن وعلم، {أَنَّمَا فَتَنَّاهُ} إنما ابتليناه.
وقال السدي بإسناده: أن أحدهما لما قال: {هذا أخي} الآية، قال داود للآخر: ما تقول؟ فقال: إن لي تسعًا وتسعين نعجة ولأخي نعجة واحدة وأنا أريد أن آخذها منه فأكمل نعاجي مائة، قال: وهو كاره، إذًا لا ندعك وإن رمت ذلك ضربت منك هذا وهذا وهذا، يعني: طرف الأنف وأصله والجبهة، فقال: يا داود أنت أحق بذلك حيث لم يكن لأوريا إلا امرأة واحدة ولك تسع وتسعون امرأة، فلم تزل تعرضه للقتل حتى قتل وتزوجت امرأته، فنظر داود فلم ير أحدًا فعرف ما وقع فيه.
وقال القائلون بتنزيه الأنبياء في هذه القصة: إن ذنب داود إنما كان أنه تمنى أن تكون امرأة أوريا حلالا له، فاتفق غزو أوريا وتقدمه في الحرب وهلاكه، فلما بلغ قتله داود لم يجزع عليه كما جزع على غيره من جنده إذا هلك، ثم تزوج امرأته، فعاتبه الله على ذلك، لأن ذنوب الأنبياء وإن صغرت فهي عظيمة عند الله.
وقيل: كان ذنب داود أن أوريا كان خطب تلك المرأة ووطن نفسه عليها، فلما غاب في غزاته خطبها داود فتزوجت منه لجلالته، فاغتم لذلك أوريا، فعاتبه الله على ذلك حيث لم يترك هذه الواحدة لخاطبها وعنده تسع وتسعون امرأة.
أخبرنا أبو سعيد الشريحي، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي قال: ومما يصدق ما ذكرنا عن المتقدمين ما أخبرني عقيل بن محمد بن أحمد الفقيه أن المعافي بن زكريا القاضي ببغداد أخبره عن محمد بن جرير الطبري، قال: حدثني يونس بن عبد الأعلى الصيرفي، أخبرنا ابن وهب، أخبرني ابن لهيعة، عن أبي صخر، عن يزيد الرقاشي، عن أنس بن مالك رضي الله عنه سمعه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن داود النبي- عليه السلام- حين نظر إلى المرأة فهمَّ أن يُجمع على بني إسرائيل وأوصى صاحب البعث، فقال إذا حضر العدو فقرب فلانًا بين يدي التابوت، وكان التابوت في ذلك الزمان يستنصر به وبمن قدم بين يدي التابوت، فلم يرجع حتى يقتل أو ينهزم عنه الجيش فقتل زوج المرأة، ونزل الملكان يقصان عليه قصته، ففطن داود فسجد ومكث أربعين ليلة ساجدًا حتى نبت الزرع من دموعه على رأسه وأكلت الأرض من جبينه وهو يقول في سجوده: رب زل داود زلة أبعد مما بين المشرق والمغرب، رب إن لم ترحم ضعف داود، ولم تغفر ذنبه جعلت ذنبه حديثًا في الخلق من بعده، فجاءه جبريل من بعد أربعين ليلة فقال: يا داود إن الله قد غفر لك الهم الذي هممت به، فقال داود: إن الرب قادر على أن يغفر لي الهم الذي هممت به، وقد عرفت أن الله عدل لا يميل، فكيف بفلان إذا جاء يوم القيامة، فقال: يا رب دمي الذي عند داود، فقال جبريل: ما سألت ربك عن ذلك وإن شئت لأفعلن، فقال: نعم، فعرج جبريل وسجد داود، فمكث ما شاء الله ثم نزل جبريل، فقال: سألت الله يا داود عن الذي أرسلتني فيه، فقال: قل لداود إن الله يجمعكما يوم القيامة، فيقول له: هب لي دمك الذي عند داود، فيقول: هو لك يا رب، فيقول: إن لك في الجنة ما شئت وما اشتهيت عوضًا عنه.
وروي عن ابن عباس، وعن كعب الأحبار، ووهب بن منبه قالوا جميعًا: إن داود لما دخل عليه الملكان فقضى على نفسه، فتحولا في صورتيهما فعرجا وهما يقولان: قضى الرجل على نفسه، وعلم داود إنما عني به فخر ساجدًا أربعين يومًا، لا يرفع رأسه إلا لحاجة ولوقت صلاة مكتوبة،
ثم يعود ساجدًا تمام أربعين يومًا، لا يأكل ولا يشرب، وهو يبكي حتى نبت العشب حول رأسه وهو ينادي ربه عز وجل، ويسأله التوبة، وكان من دعائه في سجوده: سبحان الملك الأعظم الذي يبتلي الخلق بما يشاء، سبحان خالق النور، سبحان الحائل بين القلوب، سبحان خالق النور، إلهي أنت خليت بيني وبين عدوي إبليس فلم أقم لفتنته إذ نزلت بي، سبحان خالق النور، إلهي أنت خلقتني وكان من سابق علمك ما أنا إليه صائر، سبحان خالق النور، إلهي الويل لداود إذا كشف عنه الغطاء، فيقال: هذا داود الخاطئ، سبحان خالق النور، إلهي بأي عين أنظر إليك يوم القيامة، وإنما ينظر الظالمون من طرف خفي، سبحان خالق النور إلهي بأي قدم أمشي أمامك وأقوم بين يديك يوم تزول أقدام الخاطئين، سبحان خالق النور، إلهي من أين يطلب العبد المغفرة إلا من عند سيده؟ سبحان خالق النور، إلهي أنا الذي لا أطيق حر شمسك، فكيف أطيق حر نارك؟ سبحان خالق النور، إلهي أنا الذي لا أطيق صوت رعدك، فكيف أطيق سوط جهنم؟ سبحان خالق النور، إلهي الويل لداود من الذنب العظيم الذي أصاب، سبحان خالق النور، إلهي قد تعلم سري وعلانيتي فاقبل عذري، سبحان خالق النور، إلهي برحمتك اغفر لي ذنوبي ولا تباعدني من رحمتك لهواي، سبحان خالق النور، إلهي أعوذ بنور وجهك الكريم من ذنوبي التي أوبقتني، سبحان خالق النور، فررت إليك بذنوبي واعترفت بخطيئتي فلا تجعلني من القانطين، ولا تخزني يوم الدين، سبحان خالق النور. وقال مجاهد: مكث أربعين يومًا ساجدًا لا يرفع رأسه حتى نبت المرعى من دموع عينه حتى غطى رأسه، فنودي: يا داود أجائع فتطعم؟ أو ظمآن فتسقى؟ أو عار فتكسى؟ فأجيب في غير ما طلب، قال: فنحب نحبة هاج لها العود فاحترق من حر جوفه، ثم أنزل الله له التوبة والمغفرة. قال وهب: إن داود أتاه نداء: إني قد غفرت لك، قال: يا رب كيف وأنت لا تظلم أحدًا؟ قال: اذهب إلى قبر أوريا فناده، فأنا أسمعه نداءك فتحلل منه، قال: فانطلق وقد لبس المسوح حتى جلس عند قبره، ثم نادى يا أوريا فقال: لبيك من هذا الذي قطع عني لذتي وأيقظني؟ قال: أنا داود، قال: ما جاء بك يا نبي الله، قال: أسألك أن تجعلني في حل مما كان مني إليك، قال: وما كان منك إليّ؟ قال: عرضتك للقتل: قال: عرضتني للجنة فأنت في حل، فأوحى الله إليه: يا داود ألم تعلم أني حكم عدل لا أقضي بالعنت، ألا أعلمته أنك قد تزوجت امرأته؟ قال: فرجع إليه فناداه فأجابه فقال: من هذا الذي قطع عليّ لذتي؟ قال: أنا داود، قال: يا نبي الله أليس قد عفوت عنك؟ قال: نعم ولكن إنما فعلت ذلك بك لمكان امرأتك وقد تزوجتها، قال: فسكت ولم يجبه، ودعاه فلم يجبه، وعاوده فلم يجبه، فقام على قبره وجعل التراب على رأسه، ثم نادى: الويل لداود ثم الويل الطويل لداود، سبحان خالق النور، والويل لداود إذا نصبت الموازين بالقسط، سبحان خالق النور، الويل لداود ثم الويل الطويل له حين يؤخذ بذقنه فيدفع إلى المظلوم، سبحان خالق النور، الويل ثم الويل الطويل له حين يسحب عل وجهه مع الخاطئين إلى النار، سبحان خالق النور، فأتاه نداء من السماء: يا داود قد غفرت لك ذنبك ورحمت بكاءك واستجبت دعاءك وأقلت عثرتك، قال: يا رب كيف وصاحبي لم يعف عني؟ قال: يا داود أعطيه من الثواب يوم القيامة ما لم تر عيناه ولم تسمع أذناه، فأقول له: رضي عبدي؟ فيقول: يا رب من أين لي هذا ولم يبلغه عملي؟ فأقول: هذا عوض من عبدي داود فأستوهبك منه فيهبك لي، قال: يا رب الآن قد عرفت أنك قد غفرت لي. فذلك قوله تعالى: {فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا} أي ساجدًا، عبر بالركوع عن السجود، لأن كل واحد فيه انحناء.
قال الحسين بن الفضل: سألني عبد الله بن طاهر عن قوله: {وخر راكعا} هل يقال للراكع: خر؟ قلت: لا ومعناه، فخر بعدما كان راكعًا، أي: سجد {وَأَنَابَ} أي: رجع وتاب.